فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{يا أيها الناس}.
رجوعٌ إلى خطابِهم وتكريرُ النِّداءِ لتأكيدِ العظةِ والتَّذكير {إِنَّ وَعْدَ الله} المشارَ إليه برجعِ الأمورِ إليه تعالى من البعث والجزاء {حَقّ} ثابتٌ لا محالةَ من غيرِ خُلفٍ {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا} بأنْ يُذهلكم التَّمتع بمتاعِها ويُلهيكم التَّلهي بزخارِفها عن تداركِ ما يهمكم يومَ حلولِ الميعادِ. والمرادُ نهيُهم عن الاغترار بها وإنْ توجَّه النَّهيُ صورةً إليها كما في قوله تعالى: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى} {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله} وعفوِه وكرمه تعالى: {الغرور} أي المبالغُ في الغُرور وهو الشَّيطانُ بأنْ يمنيكم المغفرةَ مع الإصرارِ على المعاصِي قائلًا اعملوا ما شئتم إنَّ الله غفورٌ يغفرُ الذُّنوبَ جميعًا، فإنَّ ذلكَ وإنْ أمكنَ لكنْ تعاطي الذّنوبِ بهذا التَّوقعِ من قبيلِ تناولِ السُّمِّ تعويلًا على دفعِ الطَّبيعةِ. وتكريرُ فعلِ النَّهي للمبالغةِ فيه ولاختلافِ الغرورينِ في الكيفيَّةِ. وقُرئ الغُرور بالضَّمِّ على أنَّه مصدرٌ أو جمعُ غَارٍ كقُعودٍ جمعُ قاعدٍ.
{إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ} عداوةً قديمةً لا تكاد تزولُ. وتقديمُ لكم للاهتمامِ به {فاتخذوه عَدُوًّا} بمخالفتِكم له في عقِائدِكم وأفعالِكم وكونِكم على حَذَرٍ منه في مجامعِ أحوالِكم. وقولُه تعالى: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أصحاب السعير} تقريرٌ لعداوتِه وتحذيرٌ من طاعتِه بالتَّنبيهِ على أنَّ غرضَه في دعوةِ شيعتِه إلى اتِّباعِ الهَوَى والركونِ إلى ملاذِّ الدُّنيا ليس تحصيلَ مطالبِهم ومنافِعهم الدُّنيويَّةِ كما هو مقصد المُتحابِّين في الدُّنيا عند سعي بعضِهم في حاجةِ بعضٍ بل هو توريطُهم وإلقاؤُهم في العذابِ المُخلَّد من حيثُ لا يحتسبون {الذين كَفَرُواْ لَهُمْ} بسببِ كفرِهم وإجابتِهم لدعوةِ الشَّيطانِ واتِّباعِهم لخطواتِه {عَذَابٌ شَدِيدٌ} لا يُقَادر قَدُره مديدٌ لا يُبلغ مداهُ {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم} بسببِ ما ذُكر من الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ الذي من جُملتِه عداوةُ الشِّيطانِ {مَغْفِرَةٌ} عظيمةٌ {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} لا غايةَ لهما.
{أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَنًا} إمَّا تقريرٌ لما سبقَ من التَّبايُنِ البيِّنِ بين عاقبتيْ الفريقينِ ببيان تباينِ حالهما المُؤدِّيينِ إلى تَينكِ العاقبتينِ. والفاءُ لإنكارِ ترتيبِ ما بعدها على ماقبلها أي أبعدَ كونِ حاليهما كما ذُكر يكون من زُيِّن له الكفرُ من جهةِ الشَّيطانِ فانهمك فيه كمنْ استقبحَه واجتنَبه واختارَ الإيمانَ والعملَ الصَّالحَ حتَّى لا تكونُ عاقبتُهما كما ذُكر فَحذْفُ ما حُذف لدلالةِ ما سبق عليه وقوله تعالى: {فَإِنَّ الله يُضِلُّ} الخ تقريرٌ له وتحقيقٌ للحقِّ ببيانِ أنَّ الكُل بمشيئتِه تعالى أيْ فإنَّه تعالىَ يُضلُّ {مَن يَشَاء} أنْ يضلَّه لا ستحسانِه واستحبابِه الضَّلالَ وصرفِ اختيارِه إليه فيردَّه أسفلَ سافلينَ {وَيَهْدِى مَن يَشَاء} أنْ يهديَه بصرفِ اختيارِه إلى الهُدى فيرفعه إلى أعلى عليين وإمَّا تمهيدٌ لما يعقبه من نهيهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن التَّحسرِ والتَّحزنِ عليهم لعدمِ إسلامِهم ببيانِ أنَّهم ليُسوا بأهلٍ لذلَك بلْ لأنْ يُضربَ عنهم صَفْحًا ولا يُبالي بهم قطعًا، أي أبعدَ كونِ حالِهم كما ذُكر تتحسَّر عليهم فحُذف لما دلَّ عليه قولُه تعالى: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} دلالة بيِّنةٌ. وإمَّا تمهيدٌ لصرفِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عمَّا كانَ عليه من الحرصِ الشَّديدِ على إسلامِهم والمبالغةِ في دعوتِهم إليه ببيانِ استحالةِ تحويلِهم عن الكفرِ لكونِه في غايةِ الحسنِ عندهم أي أبعدَ ما ذُكر من زُيِّن له الكفرُ من قبل الشَّيطانِ فرآه حسنًا فانهمك فيه يقبلُ الهدايةَ حتَّى تطمعَ في إسلامِه وتُتعبَ نفسَك في دعوتِه فحُذف ما حُذف لدلالةِ ما مرَّ من قولِه تعالى {فإنَّ الله يُضلُّ مَن يشاء} الخ على أنَّه ممن شاء الله تعالى أنْ يضلَّه فمن يهدي مَن أضلَّ الله وما لهم مِن ناصرين. وقُرئ {فلا تُذهب نفسك} وقولُه تعالى: {حسراتِ} إمَّا مفعول له أي فلا تهلك نفسك للحسرات والجمعُ للدِّلالةِ على تضاعفِ اغتمامِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على أحوالِهم أو على كثرةِ قبائحِ أعمالِهم الموجبةِ للتَّأسُّفِ والتَّحسرِ وعليهم. صلةُ تذهب كما يقال هَلك عليه حيًَّا ومات عليه حُزنًا أو هو بيانٌ للمتحسَّر عليهِ ولا يجوزُ أنْ يتعلَّق بحسراتٍ لأنَّ المصدرَ لا تتقدَّمُ عليه صلتُه وإمَّا حالٌ كأن كلها صارت حسرات وقوله تعالى: {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} أي من القبائحِ تعليلٌ لما قبله على الوجوهِ الثلاثةِ مع ما فيه من الوعيد. عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: أنَّها نزلتْ في أبي جهلٍ ومُشركِي مكَّةَ. اهـ.

.قال الألوسي:

{يا أَيُّهَا الناس إِنَّ وَعْدَ الله}.
المشار إليه بقوله سبحانه: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} من البعث والجزاء {حَقّ} ثابت لا محالة من غير خلف {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا} بأن يذهلكم التمتع بمتاعها ويلهيكم التلهي بزخارفها عن تدارك ما ينفعكم يوم حلول الميعاد، والمراد نهيهم عن الاغترار بها وإن توجه النهي صورة إليها نظير قوله تعالى: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى} [هود: 89] وقولك لا أرينك هنا {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله} حيث أنه جل شأنه عفو كريم رءوف رحيم {الغرور} أي المبالغ في الغرور، وهو على ما روى عن ابن عباس والحسن ومجاهد الشيطان فالتعريف للعهد، ويجوز التعميم أي لا يغرنكم كل من شأنه المبالغة في الغرور بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية قائلًا إن الله يغفر الذنوب جميعًا فإن ذلك وإن أمكن لكن تعاطي الذنوب بهذا التوقع تناول السم تعويلًا على دفع الطبيعة، وتكرير فعل النهي للمبالغة فيه ولاختلاف الغرورين في الكيفية.
وقرأ أبو حيوة وأبو السمال {الغرور} بالضم على أنه مصدر غره يغره وإن قل في المتعدي أو جمع غار كقعود وسجود مصدرين وجمعين، وعلى المصدرية الإسناد مجازي.
{إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ} عداوة عامة قديمة لا تكاد تزول، ويشعر بذلك الجملة الاسمية و{لَكُمْ} وتقديمه للاهتمام {فاتخذوه عَدُوًّا} بمخالفتكم إياه في عقائدكم وأفعالكم وكونوا على حذر منه في مجامع أحوالكم {إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أصحاب السعير} تقرير لعداوته وتحذير من طاعته بالتنبيه على أن غرضه في دعوة شيعته إلى إتباع الهوى والركون إلى ملاذ الدنيا ليس إلا توريطهم وإلقاءهم في العذاب المخلد من حيث لا يشعرون فاللام ليست للعاقبة.
وزعم ابن عطية أنها لها.
{الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} بسبب كفرهم وإجابتهم لدعوة الشيطان واتباعهم لخطواته، ولعل تنكير {عَذَابِ} لتعظيمه بحسب المدة فكأنه قيل: لهم عذاب دائم شديد {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ} عظيمة {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} لا غاية لهما بسبب ما ذكر من الايمان والعمل الصالح، و{الذين كَفَرُواْ} مبتدأ خبره {لَهُمْ عَذَابَ} وكذا {الذين كَفَرُواْ وَلَهُمْ مَغْفِرَةٍ} الخ، وجوز بعضهم كون {الذين كَفَرُواْ} في موضع خفض بدلًا من {أصحاب السعير} أو صفة له أو في موضع نصب بدلًا من {حِزْبَهُ} أو صفة له أو في موضع رفع بدلًا من ضمير {لّيَكُونُواْ} والكل مفوت لجزالة التركيب كما لا يخفى على الأريب.
{أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ} أي حسن له عمله السيء {فَرَءاهُ} فاعتقده بسبب التزيين {حَسَنًا} فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، و{مِنْ} موصولة في موضع رفع على الابتداء والجملة بعدها صلتها والخبر محذوف والفاء للتفريع والهمزة للإنكار فإن كانت مقدمة من تأخير كما هو رأي سيبويه والجمهور في نظير ذلك فالمراد تفريع إنكار ما بعدها على ما قبلها من الحكمين السابقين أي إذا كانت عاقبة كل من الفريقين ما ذكر فليس الذي زين له الكفر من جهة عدوه الشيطان فاعتقده حسنًا وانهمك فيه كمن استقبحه واجتنبه واختار الايمان والعمل الصالح وإن كانت في محلها الأصلي وكان العطف على مقدر تكون هي داخلة إليه كما ذهب إليه جمع فالمراد ما في حيزها ويكون التقدير أهما أي الذين كفروا والذين آمنوا وعملوا الصالحات متساويان فالذي زين له الكفر من جهة عدوه الشيطان فاعتقده حسنًا وانهمك فيه كمن استقحبه واجتنبه واختار الايمان والعمل الصالح أي ما هما متساويان ليكون الذي زين له الكفر كمن استقبحه، وحذف هذا الخبر لدلالة الكلام عليه واقتضاء النظم الجليل إياه، وقد صرح بالجزأين في نظير الآية الكريمة من قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ} [محمد: 41] وقوله سبحانه: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى} [الرعد: 19] وقوله عز وجل: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه وجعلناه لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات} [الأنعام: 122] وفي التعبير عن الكافر بمن زين له سوء عمله فرآه حسنًا إشارة إلى غاية ضلاله حتى كأنه غلب على عقله وسلب تمييزه فشأن المغلوب على عقله ذلك كما يشير إليه قول أبي نواس:
اسقني حتى تراني ** حسنًا عندي القبيح

وظاهر كلام الزجاج أن من شرطية حيث قال: الجواب على ضربين، أحدهما: ما يدل عليه قوله تعالى: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ} الخ ويكون المعنى أفمن زيد له سوء عمله فأضله الله ذهبت نفسك عليهم حسرة، وثانيهما: ما يدل عليه قوله تعالى: {فَإِنَّ الله} الخ ويكون المعنى أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله تعالى، وإلى ذلك ذهب ابن مالك أيضًا.
واعترض ابن هشام على التقدير الثاني بأن الظرف لا يكون جوابًا وإن قلنا إنه جملة، ووجه أن الرضى صرح بأنه لا يكون مستقرًا في غير الخبر والصفة والصلة والحال ولم يذكر الجواب لا أن دخل لعدم الفاء، وتقديرها داخلة على مبتدأ يكون الظرف خبره والجملة بتمامها جزاء غير جائز لما فيه من التكلف كما قيل.
وزعم بعضهم أنه يجوز أن يكون الزجاج قد ذهب إلى أن من موصولة وأطلق على خبرها الجواب لشبهه به في المعنى ألا تراهم يدخلون الفاء في خبر الموصول الذي صلته جملة فعلية كما يدخلونها في جواب الشرط فيقولون الذي يأتيني فله درهم، وفيه أنه خلاف الظاهر ولا قرينة على إرادته سوى عدم صحة الجزائية، وضعف التقدير الأول بالفصل بين ما فيه الحذف ودليل المحذوف مع خفاء ربط الجملة بما قبلها عليه، ولا ينبغي أن تكون من شرطية جوابها فرآه لما في ذلك من الركاكة الصناعية فإن الماضي في الجواب لا يقترن بالفاء بدون قد مع خفاء أمر إنكار رؤية سوء العمل حسنًا بعد التزيين وتفريعه على ما قبله من الحكمين، وكون الإنكار لما أن المزين هو الشيطان العدو والتفريع على قوله تعالى: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أصحاب السعير} [فاطر: 6] لا يخفى حاله فالوجه المعول عليه ما تقدم جعل عليه، وقوله تعالى: {فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء} تعليلًا لسببية التزيين لرؤية القبيح حسنًا، وفيه دفع استبعاد أن يرى الشخص القبيح حسنًا بتزيين العدو إياه ببيان أن ذلك بمشيئة عز وجل التابعة للعلم المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر وإيذان بأن أولئك الكفرة الذين زين لهم سء عملهم فرأوه حسنًا ممن شاء الله تعالى ضلالهم، وقوله تعالى: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} تفريع عليه أي إذا كان الأمر كذلك فلا تذهب نفسك الخ، وذكر المولى سعدى جلبي أن الهمزة في {أَفَمَنِ} على التقدير الأول من التقديرين الذين نقلًا عن الزجاج لإنكار ذهاب نفسه صلى الله عليه وسلم عليه عليهم حسرة والفاء في قوله سبحانه: {فَإِنَّ الله} الخ تعليل لما يفهمه النظم الجليل من أنه لا جدوى للتحسر، وفي الكشاف أنه تعالى لما ذكر الفريقين الذين كفروا والذين آمنوا قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَنًا} يعني أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له فكأن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال لا فقال تعالى: {فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} ويفهم من كلام الطيبي أن فاء {فَلاَ تَذْهَبْ} جزائية وفاء {فَإِنَّ الله} للتعليل وأن الجملة مقدمة من تأخير فقد قال: إنه صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على إيمان القوم وأن يسلك الضالين في زمرة المهتدي فقيل له عليه الصلاة والسلام على سبيل الإنكار لذلك: أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له فلابد أن يقر صلى الله عليه وسلم بالنفي ويقول لا فحينئذ يقال له فإاذ كان كذلك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فقدم وأخر انتهى وفيه نظر، وفي الآيات على ما يقتضيه ظاهر كلام الزمخشري لف ونشر وبذلك صرح الطيبي قال قال: الأحسن أن تجعل الآيات من الجمع والتقسيم والتفريق فقوله تعالى: {الأمور يا أَيُّهَا الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} جمع الفريقين معًا في حكم نداء الناس وجمع مالهما من الثواب والعقاب في حكم الوعد وحذرهما معًا عن الغرور بالدنيا والشيطان، وأما التقسيم فهو قوله تعالى: {الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [فاطر: 7] وأما التفريق فقوله تعالى: {أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ} لأنه فرق فيه وبين التفاوت بين الفريقين كما قال الزمخشري أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له، وفرع على ذلك ظهور أن الفاء في {أَفَمَنِ} للتعقيب والهمزة الداخلة بين المعطوف والمعطوف عليه لإنكار المساواة وتقرير البون العظيم بين الفريقين وأن المختار من أوجه ذكرها السكاكي في المفتاح تقدير كمن هداه الله تعالى فحذف لدلالة {فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء} ولهم في نظم الآيات الكريمة كلام طويل غير ما ذكرناه من أراده فليتبع كتب التفاسير والعربية، ولعل فيما ذكرناه مقنعًا لمن أوتي ذهنًا سليمًا وفهمًا مستقيمًا.
والحسرات جمع حسرة وهي الغم على ما فاته والندم عليه كأنه انحسر عنه ما حمله على ما ارتكبه أو انحسر قواه من فرط غم أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه، وانتصبت على أنها مفعول من أجله أي فلا تهلك نفسك للحسرات، والجمع مع أن الحسرة في الأصل مصدر صادق على القليل والكثير للدلالة على تضاعف اغتمامه عليه الصلاة والسلام على أحوالهم أو على كثرة قبائح أعمالهم الموجبة للتأسف والتحسر، و{عَلَيْهِمْ} صلة {تَذْهَبْ} كما يقال هلك عليه حبًا ومات عليه حزنًا أو هو بيان للمتحسر عليه فيكون ظرفًا مستقرًا ومتعلقه مقدر كأنه قيل: على من تذهب؟ فقيل: عليهم، وجوز أن يتعلق بحسرات بناء على أنه يغتفر تقديم معمول المصدر عليه إذا كان ظرفًا وهو الذي اختاره والزمخشري لا يجوز ذلك، وجوز أن يكون حسرات حالًا من {نَّفْسَكَ} كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر كما قال جرير:
مشق الهواجر لحمهن مع السري ** حتى ذهبن كلاكلا وصدورًا

يريد رجعن كلاكلا وصدورًا أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها، وهو الذي ذهب إليه سيبويه في البيت، وقال المبرد: كلاكلا وصدورًا تمييز محول عن الفاعل أي حتى ذهب كلاكلها وصدورها، ومن هذا قوله:
فعلى أثرهم تساقط نفسي ** حسرات وذكرهم لي سقام

وفيه مبالغات ثلاث، وقرأ عبيد بن عمير {زُيّنَ} مبنيًا للفاعل، ونصب {سوأ} وعنه أيضًا {عَنْهُمْ أَسْوَأَ} على ومن أفعل وأريد بأسوأ عمله الشرك، وقرأ طلحة {مِن} بغير فاء قال صاحب اللوامح: فالهمزة للاستخبار والتقرير ويجوز أن تكون للنداء وحذف ما نودي لأجله أي تفكر وارجع إلى الله فإن الله الخ، والظاهر أنها للإنكار كما في قراءة الجمهور، وقرأ أبو جعفر وقتادة وعيسى والأشهب وشيبة وأبو حيوة وحميد والأعمش وابن محيصن {تَذْهَبْ} من أذهب مسندًا إلى ضمير المخاطب {نَّفْسَكَ} بالنصب على المفعولية ورويت عن نافع.
{إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} في موضع التعليل لما قبله وفيه وعيد للكفرة أي أنه تعالى عليم بما يصنعونه من القبائح فيجازيهم عليه، والآيات من قوله تعالى: {أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ} إلى هنا نزلت على ما روي عن ابن عباس في أبي جهل ومشركي مكة، وأخرج جويبر عن الضحاك أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه وأبي جهل حيث هدى الله تعالى عمر وأضل أبا جهل. اهـ.